إن نرتجلُ أو ننتقلُ من أي مجالٍ أمر وارد الاحتمالية وطبيعي جداً. إنَّه ينطبقُ على جميع الأصعدة: مثل الدراسة أو علاقاتنا الإنسانية سواء أكانت علاقة عائلية أو عملٍ أيضًا، بل حتى في الرحيل والانتقال لمدينة أخرى للعيش فيها.
هناك عباره لا أتذكر أين ومتى ومِن مَن سمعتُها، ولكن تدور في عقلي ودائمًا ما أرددها "الحياة لقاء وفراق" فعلى الصعيد المهني، دائماً ما يغير القدر لي المسار وأنا لدي إيمان بأن الله يختار لي الأفضل فهي دعوة صادقة من عائلتي التي تحترم اختياراتي في طريق الحياة.
فإذا كان لكل شيء أصول وبروتوكول نسير عليه، فكذلك الحال في الترجل والانتقال. أحياناً الوداع والترجل رحلة صيفية ممتعة ترغب أن تطول وأحياناً هي مؤلمة كعملية جراحية مضطر لها أو كالدواء المر ، هو أمرُ لا مفر منه نتجرعه على أمل أن يكون حالنا أفضل أو أن الفرص الأفضل ستكون من نصيبنا.
لكُل فارسٍ طريقة في الترجلِ من فرسه تعكس شخصيته وفروسيته؛ كذلك في الترجل من الحياة أحرص أن يكون أنيقاً. أحببت في كتاب الدكتور عبداللّٰه المغلوث بعنوان "الإدارة الأنيقة" الذي يتحدث في أحد فصوله عن موضوع اسمّاه "فن الوداع" يقول: " لا بد أن نتبعه بمهارة وكفاءة؛ حتى نقلل من أعراضه الجانبية قدر الإمكان" أحببت أن أذكر خطواته بتصريف مني. ليكون الترجل وإكمال الرحلة أقل ألم وأكثر رأفة ورحمة بمن حولنا وكذلك على أنفسنا، كمهارات ترجلِ الفارس من فرسه وهي كالآتي:
أولاً: يقول الدكتور عبداللّٰه إن أول خطوة هي التدرج، حيث أن له سحراً ودهشة بطعم خاص لأنه يجعل أي أمر أكثر قبولًا وعندما قرأت تلك الخطوة طرأ على عقلي قصيدة غازي القصيبي -رحمه الله- تقول:
"وتشاءُ أنت من البشائر قطرةً
ويشاءُ ربُك أن يُغيثك بالمطر
وتشاءُ أنت من الأماني نجمةً
ويشاءُ ربُك أن يُناولك القمر
وتشاءُ أنت من الحياة غنيمة
ويشاءُ ربُك أن يسوق لك الدرر
وتظلُ تسعى جاهدا في همة
والله يعطي من يشاء إذا شكر
والله يمنع إن أراد بحكمة
لابد أن ترضى بما حكم القدر".
فكيف نجعله خبراً غير صادم ونقلل من عمق الهوة والوجع علينا وعلى من حولنا؟ الجواب: أن نقوم به على مراحل بالتدرج لتقل آثاره نسبيا.
ثانيًا: الطريقة والتوقيت لنتذكر اللحظات الجميلة التي نتركها خلفنا، لا نختمها بأمور مخيبة. تذكر ما نرسله للعالم يعود لنا أضعاف مضاعفة. لا تباغت الأحبة والرفاق فجأة. تأكد من الانصراف في وقت غير عصيب. فكن نبيلاً وأترك تلك الذاكرة لديهم.
ثالثًا: أحرص على أن يكون خِتامُها مِسك. العديد منا سيذهب عند اتخاذ قرار الرحيل، لسنا في حاجة إلى تبرير موقفنا عند الترجل فالكل يعلم ما تود أن تقوله وتفشيه،لا تفشه وإنما احتفظ به. ليحتفظوا بك صورة جميلة. وأنا أؤمن أن أعمال الأشخاص تتجسد لهم على هيئة أروح تعكس نواياهم. فدائماً ما ترسخ النهايات في الذاكرة والروح أيضًا. إن لم نستطع أن نجعلها نهاية سعيدة فلا نجعلها قاسية.قد تبدأ معهم من جديد يوماً، ألم أقل لك أن الحياة لقاء وفراق ثم لقاء آخر. قد تلتقي بهم أو تفارقهم لاحقاً إن كتب القدر ذلك. وإن حدث فكن أنت صاحب السيرة الأنيقة والنهايات الهادئة.
رابعًا: لحنٌ رسالة، أكتبْ رسالةً طيبةً من القلب،،، مليئة بالتقدير لكل الأمور الجميلة والمميزة التي مرت عليك وتفيضُ بالامتنان والعرفان لتلك الأرواح التي قابلتك في الطريق ...افعلها قبل أن تحمل أمتعتك وتغادر. ستترك أثر جميل كرائحة البخور الفاخر في جلسات الأعياد. صدقني.
هنا سأقوم بفعل ذلك مع أصدقاء وزملاء لتخليد ذكراهم في ذاكرتي ليقين لدي أن العمر يمر بغمضة عين وأخاف أن تخونني ذاكرتي في تذكر تفاصيلها لكن أجزم بأني لن أنسى فضلهم... فأحببت أن تكون أول مدونة رسالة لـــ "فريق أعناب الأصيل" عملت مع فريق أقل مايوصف أنهم (كريتيف كريتيف وكريفيييين بحب وكمان لديهم رسالة" فريق 3in1 :) .
طوال تسعة عشر عاماً في المجال المهني نادرًا ما يمر عليَّ فريقُ عملٍ "مختارٌ على الفرازة" له من اسم الشركة نصيب "عنب متنقي نقاوة" يدل على معدن مؤسسي المنصة... وهم فعلًا عنب من النوع الفاخر الذي لا يتكرر... شكرًا لهم ولطيبتهم وحرفيتهم، كل فرد منهم اكتسبت منه شيء.... المغامرة والإبداع والفزعة وجمال الروح والسرعة البديهية والمخاطرة أيضًا... في أعناب زادت قناعتي أن "دوام الحال من المحال" و بتجربة حية شاهدتها في كل مشاريعنا تتجسد في عبارة : أنك تتمكن عندما تُمكن غيرك، لهم بالقلب مكانة ما تتهزش أبدأ والله …
أخيراً: قبل أن أشد الرحال لمدينة أخرى أترجل على شاطئ كورنيش مدينة جدة، كما جلست عليه أول مرة منذ ما يقارب أربعة أعوام مازلت أتذكر المكان الأول الذي وقفت فيه لساعات على شطئه. كان حديث ساحراً مع الأمواج و مازلت أتذكر هبة الريح وكأن البحر يخبرني أن اللقاءَ الثاني معه قادم ويذكرني بوعده:" أمل، المدينة ستتداوى ما تخبئه بداخلك"... لن أخبئ عليك بكيت قليلًا لأني تعلقت بالمدينة كثيرًا فأنا لا أتذكر منها إلا كل ماهو جميل. ولكن لن أطيل البعد عنها ...
ألم أقل لك يا عزيزي : "أن الحياة لقاء وفراق ثم لقاء".
مع كل الود والحب والله،،،
أمل الكناني
كورنيش جدة - نوفمبر 2022م
Comments